الثلاثاء، ٤ أكتوبر ٢٠١١

و مات الحكيم

"يقولون ان الحكيم يحتضر "..

انتشرت العبارة فى القرية .. تناقلتها الألسنة .. ان الحكيم مريض .. كان الخبر ينزل كالجاثوم على الصدور .. وساد الوجوم الأرجاء .. حتى الهواء ساده الوجوم لم يعد يتحرك .. ان الحكيم يحتضر .. كلهم يعلمون هذا .. وانتشر الحزن فى المنازل و البيوت انتشار الوباء ..

قرية صغيرة هى .. قرية صغيرة منسية .. لم تعرف يوما معنى الحكمة .. لم يعتد أهلها أن يفكروا فيم هو أكثر من أكلهم وشربهم و متعهم البسيطة المشروعة .. حياتهم هى البساطة ذاتها .. لا تفكير .. لا عمق .. لا اجهاد للعقول أكثر مما ينبغى .. لم يعرف أهل القرية معنى الحكمة .. حتى جاء الحكيم ..

"يقولون أن الحكيم يحتضر .. "

حزينة هى وجوه الناس .. حزينة ثيابهم و نظراتهم .. لم يعد هناك متع منذ أن مرض الحكيم .. بضعة فتيات يسرعن الخطا الى بيت الحكيم .. يريدون أن يقدموا له شيئا .. أى شيء .. لكنهم يخشون حتى الاعتراف لأنفسهم بالحقيقة .. انهم يريدون القاء النظرة الأخيرة عليه .. يسرعن الخطا .. لا يكدن يتبين أحجار الطريق من كثرة الدموع .. فتاة منهم تنظر الى حانة الحلوى .. انها مغلقة .. مغلقة منذ أن مرض الحكيم .. حتى النسيم غادر القرية ..

وحين جاء الحكيم الى القرية .. بدأ التغيير .. جاء كما يجيء النسيم .. ولم يكن يحمل الا فرع شجرة عجوز يتكىء عليه .. وبعضا من تمر و حبوب .. التف حوله الأطفال .. كانت تلك أول مرة يرون شخصا غريبا عن قريتهم .. وحين رأوه و هو يداعبهم .. تعجبوا .. انهم لم يعتادوا مداعبة أولادهم .. وحين نظر اليهم الحكيم .. بدأت ابتسامته تزول ببطء .. وارتسم على وجهه تعبير من الدهشة و التعاطف .. وفى هدوء فطن للحقيقة .. ان هؤلاء أناسا تعساء .. انهم حتى لا يعلموا أنهم تعساء ..

"يقولون أن الحكيم يحتضر .. "

لم يستطع ذلك الفتى فى الركن عند الجدار أن ينهض .. هو يعلم أن قدميه لن تحملاه .. ظل جالسا عند الجدار القديم .. يضم قدميه الى صدره .. يتذكر كيف غير الحكيم حياته .. يتذكر كيف كان وسط الفتيان مزحة ثقيلة .. انه لا يستطيع أن يرمى الحجر أبعد من أضعفهم .. وحين يقفز لم يكن يقفز عاليا كأن قدميه مكبلتان بالقرميد .. حتى الجرى لم يكن يبرع فيه .. باختصار كان المزحة الثقيلة التى يتندرون بها .. العجيبة أن ذلك لم يكن يغضبه .. هو فقط يشعر بعدم ارتياح .. لكن سرعان ما ينسى هذا لأنه ببساطة .. لم يعتد أن يفكر .. الى أن قابله الحكيم .. يتذكر كيف جعله الحكيم يشعر بتعاسة حقيقية .. انه لا يريد أن يكون المزحة الثقيلة للفتيان .. و حين سمع الحكيم بعضا من كلامه .. أخبره عن الشعر .. يتذكر كيف ساعده الحكيم فى أن يؤلف أولى قصائده .. كيف جمع الحكيم الناس فى السوق و جعله يقف بينهم فوق ربوة عالية ليقرأ عليهم قصيدته .. يتذكر كيف انتبه الناس .. كيف صفقوا له حين انتهى .. وأصبحت تلك من عادة القرية .. فى نفس اليوم كل أسبوع قصيدة جديدة يقرأها عليهم .. كانوا يتعجبون من أين يأتى بتلك التعبيرات .. من أين يأتى بذلك الكلام الممتع .. حتى الفتيات الجميلات كانوا يتحدثون عنه و عن قصائده .. ترى هل سيموت الحكيم ؟؟؟

"يقولون أن الحكيم يحتضر .. "

هل سيموت الحكيم ؟؟ سألت نفسها و هى تتأمل البحيرة الصغيرة أمامها .. وفى طريقها للبحيرة رأت أشياءا غريبة .. رأت أطفالا يبكون .. رأت فتيات جميلات تدمع أعينهم .. رأت رجالا يبدون كالأشباح من الحزن .. كانت مثلهم .. لكنها لم تستطع أن تذهب لبيت الحكيم .. هو من علمها صنع الحلوى يوما .. كان يقول لها ان يوما بلا حلوى كشجرة بلا ثمار .. و تسأله هى ببراءة :"وما الحلوى يا حكيم".. فيخبرها أنها طعام السعادة .. و حين كانت تصنع الحلوى كان أهل القرية جميعا يبتاعون منها حلواها .. و أصبحت حلواها هدايا للمحبين .. ترى هل سيموت الحكيم ؟؟؟

"يقولون أن الحكيم يحتضر .. "

كانوا يسألون أنفسهم .. من سيحدثنا عن الحب .. عن أناس المدن البعيدة و مفارقاتهم المضحكة .. من سيحدثنا عن السعادة .. و عن الشمس و عن الكواكب .. من سيجعلنا ننظر ليلا الى النجوم فنحس بضآلتنا .. غدا يموت الحكيم .. غدا يخيم الحزن على الأرجاء كليل لا يتبعه نهار ..

و فى يوم مرض الحكيم .. مرض مرضا شديدا .. وساد الحزن القرية .. و انتشر بين أهلها الذين علمهم الحكيم كيف يكونوا سعداء .. ان الحكيم يحتضر .. و وسط كل تلك الأحداث .. همس شاب حين أخبروه أن الحكيم يحتضر ..بأنه غدا يموت و ينساه أهل القرية .. انهم بشر .. و البشر ينسون .. مهما بكوا فى البداية .. مهما نظموا قصائدا للرثاء سينسون .. هذا ديدن البشر .. هكذا همس لهم .. ساعتها علموا أن القرية سيولد بها حكيم جديد .. التفوا حوله .. و تركوا حكيمهم يموت .. وحده ..

ليست هناك تعليقات: