السبت، ١ أكتوبر ٢٠١١

ابحار


إن الابحار فى الليالى المقمرة له رهبة و وقع خاص .. هكذا اعتقد البحارة قديما .. الا انهم لم يتحدثوا عن الابحار فى الليالى المظلمة .. لم يتحدثوا عن الابحار وحيدا .. لم يتحدثوا عن الابحار ليلا دون قمر .. دون ضوضاء .. ودون رفقة ..

كان البحر أمامه مظلما .. غير متجانس السواد .. كأنه بحر من مداد لا من ماء .. وبالرغم من عدم وجود بصيص من ضوء .. الا ان مشهد حركة الموج البطيء كان رهيبا .. لا تراه يتحرك بل تحسه .. ترى أمامك ذلك الكيان الرهيب .. الذى ارتدى عباءة الليل المقبضة .. تراه و هو يتنفس .. يتوعد .. يهمس بهدوء .. برعب .. يتصاعد منه بخار خافت .. ان الشتاء أحيانا لا يرحم .. لقد أتى الشتاء و الليل و الوحدة من العالم ذاته .. وحده على الشاطىء .. ينظر بتأمل الى زورقه البسيط .. و الى زاده القليل .. اليوم يبحر .. يبحر و حيدا فى ليل ليس فيه قمر .. ليس فيه بشر .. يبحر و حيدا بدون ضوضاء و لا حفلات توديع .. يبحر وحيدا و قد اعتاد الوحدة .. يوما ما اعتقد انه من الممكن أن يكون للوحدة نهاية .. يوما ما اعتقد انه يستطيع أن يهزمها .. أن يقهرها .. الا انه لم يكن يعلم أن الوحدة مثل الليل ربما يبزغ النهار لفترة لكنه يرحل .. يأخذ معه ألوانه التى منحها للأشياء .. يلملم حاجياته .. ويرحل مفسحا الطريق للساحر الرهيب الذى أتى .. الليل .. الغريب أن النهار يأتى ببطء و بكثير من الضوضاء و الصياح و البهجة .. أما الليل فيأتى بهدوء .. بثقة .. و دون ضوضاء .. هكذا الوحدة ..

***********************

إن الابحار فى الليالى المقمرة له رهبة و وقع خاص .. لكن من يتحدث هنا عن الليالى المقمرة .. من يتحدث عن وجود رفقة .. من يتحدث عن ترف الافتقاد ..

زورق صغير هو كل ما سيبحر به .. ان الابحار ليلا يحتاج لرفقة حتما .. يحتاج لما هو أكبر من زورق صغير .. لكن الرفقة لا تباع ولا تشترى فى الأسواق .. سيبحر و حده .. اعلم أيها البحر أنى سأبحر و حيدا .. اعلم أيها الليل أنى سأكون وحدى .. ان من يبحر وحده .. فى ليلة غير مقمرة لهو انسان رأى من الأهوال الكثير .. و شيئا فشيئا ارتسمت على قسماته تلك الابتسامة الهادئة المليئة بمرارة و حزن الدنيا .. واليوم يبحر وحده مرة أخرى .. الى وجهة يجهلها .. كذبوا من قالوا ان الانسان لا يفتقد الا ما يحب .. انه يفتقد ذاته رغم كرهه لها .. يفتقد نفسه فى النهار .. فى محاولاته الحمقاء للحصول على بعض من متع الدنيا .. متع بسيطة لم تعد تسعد غيره .. لم تعد تمثل متعا لغيره .. يفتقد سذاجته حين صدق أنه لم يعد وحيدا .. يفتقد من رأوه شخصا عاديا .. من لم يلحظوا شيئا غريبا فى ابتسامته المليئة بالمرارة .. يتذكر يوم أن سألته تلك الفتاة عما رآه فى حياته حتى ترتسم على وجهه تلك النظرة .. كانت تلك آخر دمعة يذكرها

***********************

إن الابحار فى الليالى المقمرة له رهبة و وقع خاص .. أما الليالى المظلمة .. فان الابحار فيها لا يحتاج الا نفسا مشروخة .. لا يخيفها الظلام .. نفسا لا تحتاج لضوء القمر حتى تتعرف وجهتها .. لأنه - ببساطة - لا وجهة لها ..

البرد و الليل و بخار الماء المتصاعد .. ان للشتاء لسحر خاص .. سحر يدغدغ مؤخرة عنقك فى برودة .. سحر يجعلك تتنهد .. يجعل دمعة -ربما دمعتين -تشوشان الرؤية أمامك .. ان للشتاء لسحر خاص .. آه من الذكريات .. مالذى يجعلنا نصدق أننا نكبر .. ما الذى يحولنا من أطفال صغار أبرياء.. الى وحوش مخيفة .. لكنه لم يتحول الى وحش .. ظل طفلا صغيرا .. و كأن ذلك المؤثر الخفى الذى يحول الناس من حوله الى وحوش قد تخطاه .. هكذا هو .. طفل قد رأى من العالم أكثر مما ينبغى لطفل مثله أن يرى .. وهاهو مرة أخرى .. بلا وطن .. و بلا وجهة .. عيناه قد كفت عن محاولات سبر أغوار ذلك البحر الأسود .. انه يعلم ماذا يكمن هناك .. لاشيء سوى المزيد من الوحدة .. المزيد من البرد .. من ليل الشتاء القاسى .. من هدوئها المخيف .. لكنه اعتاد كل هذا .. اعتاد السفر وحيدا .. كل البحار تتشابه فى الليل .. كل الأشباح تخشى من اعتادوا الوحدة مثله .. يحرك زورقه الصغير تجاه العملاق الأسود الذى لم يكف عن التنفس والهمس .. يحرك زورقه فى هدوء و الذكريات تعصف بروحه ..

***********************

إن الابحار فى الليالى المقمرة له رهبة و وقع خاص .. وغالبا ما تكون حكايات وذكريات البحارة شيئا مسليا وهم فى عرض البحر .. لكن من يبحر وحده فى ليلة بلا قمر .. فعليه أن يحتاط من ذكرياته .. لأنها قد تقتله

لماذا تهاجمنا الذكريات حين لا نريد .. لماذا تعصف بأرواحنا حين نكون فى أضعف لحظاتنا .. لماذا يتحالف البرد و الشتاء و الليل و الذكريات لصنع ذلك المزيج من الشجن .. المؤسى أننا أحيانا لا نترفق بأنفسنا .. و ما أن يتداعى سيل الذكريات بداخلنا حتى نجد أنفسنا و قد انغمسنا فيه دون أن ندرى .. ينظر الى البحر الممتد .. يعلم أنه سيلقاها يوما ما .. سيروى لها عن مغامراته فى الابحار ليلا دون قمر .. عما رآه من أهوال .. سيروى لها كيف كان يبحر وحده .. سيتركها تنتزع تلك الأسهم المغروزة بكتفه .. سيبتسم .. سيضحك .. سيقول كلاما أحمقا دون أن يخشى شيئا .. سيقلد تعبيرات وجهها .. سيخبرها عن أناس يتحولون ليلا الى وحوش مخيفة .. عن أشباح تخشى مهاجمة من يبحرون وحدهم ليلا .. عن بحار سوداء تتنفس و تهمس بهدوء .. عن شتاء قاس و ليل بهيم .. عن سماء بلا قمر .. عن ذكريات تقتل .. سيروى لها الكثير .. عن شروخ النفس .. أما الآن .. فان أمامه ابحارا آخر ..

***********************

إن الابحار فى الليالى المقمرة يذكرنا دائما بمخاطر البحر .. يترك وقعا فى النفس و خيالا سخيا .. عن ضوء القمر البارد الذي كانوا يحيكون منه ثيابا فى الحكايات و الأساطير .. عن أصوات البحارة وهم يشقون سكون الليل يعدون العدة للرحيل .. الابحار فى الليالى المقمرة له رهبته التى يصعب ألا نحسها .. حيث الغموض و روح المغامرة .. وحيث تلتمع أمواج البحر الداكنة تحت الضوء الفضى .. يترك فى النفس قشعريرة و نحن نتذكر حكايات جنيات الماء اللاتى لا يظهرن للبحارة الا ليلا ليفتنهم صوت غنائهن فيُسحرون .. لكن الابحار فى ليلة حالكة باردة .. وليل بهيم مظلم .. وحيدا دون رفقة .. يترك قشعريرة من نوع مختلف .. من نوع مخيف


ليست هناك تعليقات: