السبت، ١ أكتوبر ٢٠١١

الزهرة الحمراء

"ولا العطر بيبقى .. و لا الآلام بتروح ." .. من أغنية قديمة .. قدم الذكريات

اليوم السابع و التسعون .. هكذا تذكر و هو يخط عبارات قليلة فى أجندة بجوار فراشه .. ينظر الى غلاف الأجندة .. و الى الرسم الذى يوضح اسم معهد الأورام .. و يبتسم ابتسامة ساخرة .. حتى الأجندة التى يخط فيها أحيانا بعض من مشاعره تحرص على أن تذكره بحالته المرضية ..

اليوم السابع و التسعون منذ أن عرف باصابته بالمرض .. حقا كانت الصدمة عنيفة .. خاصة و أنه ظل طيلة عمره يؤمن بمبدأ (يحدث فقط للآخرين) .. يسمع عن حوادث .. حرائق .. مصائب .. فيتعاطف كغيره و يشعر بالشفقة كغيره.. لكن كم الثقة الذى ننميه داخل أرواحنا يجعلنا دائما نوقن أن تلك أشياء تحدث للآخرين .. فقط للآخرين .. لذلك لم يكن يتخيل أن يصيبه ورم كهذا و هو فى ريعان شبابه و نجاحه .. لم يكن يتخيل أن يصبح بين ليلة و ضحاها قصة مؤسية .. يتندر بها من عرفوه .. ثم يعودوا الى منازلهم حامدين الله على أنهم ليسوا هو ..

اليوم السابع و التسعون ,.. وبرغم هذا فقد اعتاد الوضع .. لم يكتئب .. حتى مع تدهور الحالة و الحاجة الملحة لوجوده الدائم بالمعهد .. لم يكتئب .. و من بين زيارات الأهل اليومية .. و من بين نظرات الشفقة و الحسرة و الدموع المكتومة أحيانا .. و الاصطناعية أحيانا أخرى .. بدأ يداعب نفسه قليلا بأن يتخيل أنه أخيرا قد حظى بالوقت كى يراقب الناس .. يحاول أن يفهم انفعالاتهم و مشاعرهم .. حتى المصطنع منها .. و بدأ يدون خواطره كل فترة فى تلك الأجندة بجوار فراشه .. الأجندة ذات الشعار اياه.

كان كلما سئم حجرته .. خرج ليكمل ملاحظاته .. عن المرضى الآخرين .. عن الأطباء .. عن الممرضات .. عن كل شيء .. وفى عالم قاتم كمعهد الأورام .. لم يخلص الا بنتيجة واحدة .. بدت له للوهلة الأولى غير منطقية ثم تقبلها بعد ذلك .. خلص ببساطة الى أننا جميعا حفنة من الأوغاد الجاحدين الأغبياء .. و الذين لن ينقذهم من جهنم الا رحمة الله .. ربما كانت نتيجة قاسية .. وربما كانت مبالغة بعض الشىء .. لكن من ذا الذى يطالبه بالتعقل أو الموضوعية على أية حال .

و من وسط عالم السواد من حوله بدت هى كزهرة يانعة .. زهرة حمراء فاقع لونها فى عالم تم تصويره بالأبيض و الأسود .. كانت باحثة شابة .. تأتى من فترة كى تكمل رسالة ماجيستير ما متخصصة - على ما يذكر- فى الطب النفسى .. أو الاجتماع .. لا يذكر على وجه التحديد .. لكنه يذكر أنه أحد تلك الأشياء التى لم يقنع بها يوما .. و لم يجد لها فائدة مرجوة .. أخبرته عن عنوان رسالتها من قبل لكنه فى كل مرة ينسى .. تأتى .. و تقابل بعضا من المرضى .. و بعضا من الأطباء .. تجلس معه قليلا .. يتحدثان .. ثم تمضى .. ليراها مرة أخرى بعد أسبوع ..

أول مرة رآها .. حلم بها فى ذات الليلة .. الغريبة أن الحلم لم يكن الا جزءاً من الواقع .. هو جالس مستلقٍ على فراشه .. و هى على المقعد بجانبه .. تتحدث معه .. ابتسم و هو يقول لنفسه أنه يبدو و أن أحلامه قد أصابها الورم أيضا فأصبحت محدودة للغاية .. يقضى يومين قبل أن تأتيه فى الموعد المحدد وهو يحاول أن يتخيل إطلالتها من باب الحجرة .. و ابتسامتها المضيئة .. و استطاع أن ينسى كل شيء تقريبا .. المرض .. و نظرات الشفقة فى أعين أهله ... حتى زياراتهم له - و التى كان قد بدأ يحس أنها أضحت عبئا عليهم - لم يعد يأبه بها .. يتحدث عنها طيلة الوقت .. ويكتب عنها فى أجندته .. و فى كل مرة تأتي فيها يجعل الممرضة تغلق منافذ الحجرة بعد رحيلها حتى لا يتطاير العطر الذى تركته فى الحجرة .. بالطبع لا يخبر الممرضة بالسبب .. و لكن يكفيه أن يخبرها بأنه "بردان شوية" ..

يذكر يوم سألته عن أكثر ما يكرهه فى هذا المكان .. نظر لها بجدية و هو يقول : "الجاذبية الأرضية .. " .. و حين قطبت حاجبيها فى استفسار .. أخبرها بأنه يشعر أن الجاذبية الأرضية داخل المعهد أشد و أقسى من خارجه .. هنا تصبح الأشياء ثقيلة للغاية .. و تكتسب أوزانا فوق أوزانها .. تصبح المزحة جرحاً .. و الحزن شفقة .. وشعاع الشمس له ذات ثقل زجاج النافذة الذى يتخلله .. لمح فى عينيها نظرة شرود ... ما أروعها حين تفكر فيم يقول .. كان دائما ما يداعبها بسؤاله عما اذا كانت تريد إيصال شيء لباقى زميلاتها من حوريات الجنة هناك .. تغضب هى من الدعابة الثقيلة .. و تخبره عن الحرام و الحلال .. و ضرورة الإيمان .. و أهمية الأمل .. تتسع ابتسامته .. و لا تفارقه حتى ينتصف الليل ..

منذ أسبوعين بدأت الآلام تتزايد .. وبدأت زياراتها له تقل نسبيا .. لا يذكر أى الحدثين سببا للآخر .. أو لعلهما منفصلين .. حدثته عن الامتحان القريب و انشغالها بالمذاكرة و المراجعة لمناقشة الرسالة التى اكتملت .. أخبرته أنها كتبت فى صدر رسالتها إهداءا خاصا له دون تصريح باسمه .. لكنه لم يستطع أن يخبرها عن الآلام المتزايدة ..ربما لأنه لم يكن يتذكر آلامه وهو معها .. و حين يأتى الليل .. يأتى بأشباحه القاسية ..

لا يذكر آخر مرة شم فيها رائحة عطرها .. و الواقع أنه لم يعد يهتم .. ظل يتعامل معها منذ رآها فى المرة الأولى على أنها حلم .. حلم من النوع الذى يبدو كزهرة حمراء فاقع لونها تسر الناظرين .. زهرة حمراء زاهية فى عالم بالأبيض و الأسود .. هناك حديث عن جلسات اشعاع أخرى .. عن أساليب أخرى فى العلاج الذى لا طائل منه .. و من وسط خضم الآلام تذكرها .. قرر أنه سيفعل شيئا آخر اليوم غير ذى قيمة ربما .. لكنه حمل له أهمية خاصة .. قرر اليوم قبل أن ينام أن يخط لها اهداءا خاصا فى صدر دفتر خواطره .. اهداء دون تصريح بالاسم ... فقط كتب "الى الزهرة الحمراء" .

ليست هناك تعليقات: